مضت عشر سنين عجاف منذ وعيت وجودي .. و قبلها ثمان يابسات لا يكاد فتاتها يكفل لها التنقل بين أيامي في روزنامة حياتي !! ..
هكذا كان عمري قصيراً .. ضيقاً .. يتربع الخريف على منصة أحداثه ..
ذلك الخريف الذي شهد صرختي الأولى .. كنت أصغر من أن أُمسَك .. أو تتلقفني أياديهم التي تصور لي الأشباح كلما امتدت .. أعين لم يحركني فيها سوى قلب عشقته لنوره الملائكي .. كان ذلك قلب أمي ..
خريف ثانٍ .. كثرت كبواتي الأولى فيه لإحتراف المشي .. أحاول التثبت بما يقربني من عمود أو جدار .. ولا أنسى المرة التي ظننت رجل أحدهم متكأ .. فتحرك و كانت أكبر كبوة !! ..
خريفي الثالث .. علمت فيه أن الحديث لغة لا أتقنها كالآخرون .. استعصت علي عدة أحرف .. فكنت أقرأ الخوف في عين أمي .. و ضحكات إخوتي و أبناء عمي أبكتني كثيرا ..
رابع خريف .. تعلقت فيه بأنشودة روحي أمي أكثر مما ينبغي .. بعدما كانوا يصرون على إبعادي عنها طوال نهاري بحجة أن (( الروضة )) تنتظرني كأقراني .. فتعلمت وقتها كيف أن التمرد يجعل مني سيدا مطاعا ..
خريف حمل رقم خمسة .. علمت فيه أن عمري خمسة .. و أصابع يدي خمسة .. و إخوتي خمسة .. و أن موعد الاستيقاظ للروضة الساعة خمسة .. كما أن صلوات والدتي التي تقيمها هي أيضا خمسة !!..
خريفي السادس .. كنت أجيب فيه بنعم عندما أسأل .. أتدرس .. و أجيب بـ"" أول "" عندما أسأل .. في أي صف .. لأول مرة أجدني أصرخ .. "" ماما عندي واجب "" ..



خريف سابع .. أكملت فيه قراءة أول قصة بمفردي !! .. كان حلما لازلت أتفيأ جماله .. و ظل خريفا لن أنساه ما حييت ..
ثامن خريف .. اقترفت فيه والدتي إنجاب طفلة تصغرني .. انضمت إلى قائمة أخواتي الخمسة .. فأصبحن ستة و كنت سابعا .. و لأول مرة أشعر بأني أخ أكبر ..
خريفي التاسع .. تفاجأت فيه بوالدي يحضر امرأة أخرى و يطلب مني مناداتها بـ"" ماما "" .. و ما ذلك إلا مكافأة لوالدتي لأنها أنجبت ست فتيات .. 
عاشر خريف .. صدمت بأخ لي من أبي .. حاولت أن أفي معه الكيل و أكن خير المنزلين ..
خريفي الحادي عشر .. ثمة أحلام طفولة أشعر بأني قد ودعتها .. و انتابني شعور غامض بالفخر .. لأني كَبِرْت !! ..
الثاني عشر .. غالبت دموعي و أنا أودع والدتي لأن أبي قرر تركها نهائيا .. رافقت والدي و زوجته و أبنائه إلى مأوى آخر .. أما أخوات سعادتي فقد كن ضحايا كوالدتي .. 
ثلاثة عشر .. التحقت فيه بالمرحلة المتوسطة في مدينتي الجديدة .. و لا أنس أنني غبت عن المدرسة يوم درس قصيدة " الأم " ..
الرابع عشر .. عوقبت فيه بشدة و حبست في غرفتي ليومين .. و إلى اللحظة لا أعلم الجريمة التي على إثرها وشت بي زوجة والدي لأبي !!..
الخامس عشر .. علمت فيه أن أمي مريضة .. من مكالمة هاتفية أجريتها خلسة بإحدى أخواتي .. و لم أتجرأ على إخبار والدي برغبتي في زيارتها .. فعشت ألما ممزوجا بحزن شديد ..
السادس عشر .. أصبح جسدي في المرحلة الثانوية .. و عواطفي مجتمعة في الابتدائية .. تحن لحضن والدتها يغمرها .. و هو قد ذهب و لن يعود !! ..
السابع عشر .. أصبحت رجلا .. هكذا آمنت !!.. جهزت حقيبتي المتواضعة .. و تركت رسالة لوالدي .. ودعت همومي حين وليتها ظهري لحظة صعودي القطار .. ذهبت حيث كانت والدتي .. عانقتها .. كانت هزيلة .. تحكي ملامحها جرائم والدي .. و حين أتى الطبيب لامني على التأخير !!.. بعدها لا أتذكر شيئا سوى أنها ماتت بين يدي ّ ..
خريفي الثامن عشر .. أفقت .. فوجدتني بلا حلم .. بلا أشلاء .. بلا حياة و أيام .. أم راحلة .. أخوات نُفِيْنَ لأنهن فتيات .. أب مستشيط غضبا .. إخوة يجمعني والدي بهم يصرون على امتهاني .. مجتمع نظراته غريبة .. و مجموعة ذوات أجدني أجمع ذاتي لأنتشلها من براثن عاشتها ..



0 التعليقات:

إرسال تعليق